كتبت – ياسمين خلف:
من قلب المأساة الانسانية والإجتماعية سنعيش خلال الأسطر القادمة دقائق مع اسرة اضناها الفقر والعوز، ونهشت الأمية انيابها في اجسادهم، حتي باتوا معزولين في عالم لا يتحدث فيه افرادها الا بالتكنولوجيا، ولا يتفاهمون الا مع ذوي المستويات الاجتماعية والاكاديمية العلياً!!
للقضية ابعاد كثيرة اجتمعت لتحطم ثلاث أخوات ووالدتهن، بل انها امتدت لتحطم فلذات اكبادهن، والبالغ عددهم ستة اطفال اكبرهم في الثالثة عشرة من عمره واصغرهم طفلة لم تتجاوز الثانية من عمرها!!
عشرة اشخاص في قبر ضيق!
ففي نهاية الاسبوع قررنا ان نزور تلك العائلة التي اخذت تستغيث وتطلب العون والمساعدة، لانتشالهم من واقع عاشوه لسنوات طويلة، تأقلموا معه نعم، ولكنهم أبوا أن يستمروا فيه! في طريقنا اليهم مررنا علي ازقة المنامة، وكان البيت، عفواً المقبرة الذي يعيشون فيها، في احدي هذه الازقة الضيقة جداً، والتي تشبه في ضيقها ضيقة القبر . فلا يسمح ذلك الزرنوق الا بمرور شخص واحد علي الاكثر من ضيقه.
طرقنا الباب، ففتحه لنا اطفال في اعمار مختلفة، كانوا مبتهجين لقدومنا.. المهم حاولنا كتم انفاسنا، واستنشقنا اكبر قدر ممكن من الهواء الطلق قبل ان ندخل المنزل الذي فاحت منه رائحة نتنه للغاية، فالبيت قديم جداً وضيق وملييء بالحاجيات التي لها داع والتي لا داعي لها، لن ندخل في تفاصيل المنزل أكثر، فمأساة قاطنيه تفوق عليه مأسوية ..
فالأب قابل وجه ربه قبل عشر سنوات، والأخ الوحيد توفي هو الآخر قبل 22 عاماً، اما الام فهي في العقد السادس من عمرها، ولديها اربع بنات اكبرهن متزوجة ومستقرة في حياتها الزوجية، والثلاث الباقيات ذقن ويلات الحياة ومرها، وبيت القصيد وضع البنات الثلاث، فما هي قصتهن؟!
اربع زيجات فاشلة!!
أم أحمد -الابنة الكبري- والتي تأتي في الترتيب العائلي بعد تلك المستقرة في حياتها الزوجية، وقبل أن تنطق بكلماتها حاولت ان ترسم ابتسامة علي وجهها، الا انها فشلت فكأنما الابتسامة قد قتلت قبل ان تصل اليها ، واخذت تقول بلسانها واصفة وضعها: انا في الخامسة والثلاثين من عمري، ولي ثلاثة أبناء، أحمد وعمره 13 سنة، وحسن لم يتجاوز الحادية عشرة، وهيثم في الخامسة من عمره.. حياتي اشبه بمسلسل تلفزيوني مؤلم بائس .
فعائلتي فقيرة، وظروفها المادية الصعبة اجبرتني علي ترك مقاعد الدراسة وانا لازلت في الثانية عشر من عمري، وكل ما املكه الآن الشهادة الابتدائية!!، وتزوجت.. نعم، تزوجت وأنا في الثالثة عشرة من عمري وانفصلت بعدها بخمسة اشهر. بعدها تزوجت وللمرة الثانية وانجبت ابني البكر أحمد ، الا انني انفصلت عن ابيه بعد اقل من سنة زواج.. تنقلت من بعد طلاقي من عمل لآخر، مره كسكرتيره وأخري كبائعه ومرة كعامله في احدي الروضات، وبعد ان فقدت العمل والحيلة، لن اجد سوي بيع بطاقتي السكانية لأحصل علي بضعة دنانير تعينني علي حياتي وحياة ابني الصعبة .
تتنفس الصعداء وتكمل: فما كان مني بعدها الا الزواج وللمرة الثالثة واخفقت فيه كذلك كما اخفقت من قبلها! فحدث الطلاق بيننا بعد شهر واحد، خصوصاً انه كان متزوجاً وله ابناء وزوجة، ومع ذلك تزوجت للمرة الرابعة، وأنجبت ابنين حسن وهيثم، ولا زلت علي ذمة زوجي، الا انه لا يعرف شيئاً عني او عن ابنائه، فهو يهجرني لفترة طويلة، يعود بعدها ليطل علينا دقائق ليهجرنا بعدها، فأنا متزوجة علي ورق فقط، وان حدث ودفع لي مصروف ابنائه، اعتبر الامر فرجاً من عند الله، وان لم يدفع اعتمد علي نفسي، وابحث عن من يشتري بطاقتي السكانية، خصوصاً أنني لا اعمل ولا أمل لي في الحصول علي عمل طالما انني احمل الشهادة الابتدائية. وماذا بعد يا أم أحمد؟! أجابتنا: ماذا تريدون ان تسمعوا أكثر مما سمعتم، فما ذكرته جزء من حكايتنا، واترك الباقي لأخواتي.
الإبنة الوسطي ان شاء لنا ان نطلق عليها، وهي في الثالثة والعشرين عاماً، وهي الأخري تحمل الشهادة الابتدائية، وتعمل براتب زهيد، ولها ابن في العاشرة من عمره، ومطلقة كذلك..
زوجي يكبرني بـ 31 عاماً!!
الإبنة الصغري آخر العنقود في الثانية والعشرين عاماً من عمرها، وتحمل الشهادة الاعدادية، ولها ابنتان، احداهن في الثالثة من عمرها والأخري لم تتجاوز العامين ومطلقة كأخواتها!! اطرقت بنظرها واخذت تقول بلهجة من ذاق مر الحياة قبل اوانه: خرجت من المدرسة وانا صغيرة في السن، بسبب ظروفنا المادية الصعبة التي لم تمكنني من الاسمترار علي مقاعد الدراسة، وبقيت هكذا الي ان طرق بابي رجل متزوج عمره تعدي الثامنة والارربعين عاماً، وكنت في حينها في السابعة عشرة من عمري، وقبلت به زوجاً علي الرغم من فارق السن الكبير بيننا، وعلي الرغم من كونه اباً متزوجاً لآخري غيري! نعم قبلت لأشغل نفسي من واقع لاحقني ولم يتركني.
دبت الخلافات بيننا، ولم احتمل البقاء في كنفه، فحدث ابغض الحلال بيننا وتطلقنا.. عملت بعدها في احد المحلات ونتيجة للدوام الصعب الذي يمتد من الساعة الثالثة والنصف مساءً الي الساعة الواحدة صباحاً، وعدم وجود اجازة اسبوعية تركت العمل، والحمد لله حصلت لتوي علي عمل براتب 150 ديناراً.. أما عن من يصرف علي بناتها تقول: يدفع طليقي نفقة بناته كل شهر، وتساعدني امي من المساعدة التي تحصل عليها من ادارة الشئون الاجتماعية بواقع 46 ديناراً كل شهرين!
ابنتي تعود الي الحياة
تسكت وتأخذ احدي بناتها في حجرها وتقول: المشكلة التي تؤرقني وتؤرق اخواتي وجودنا في هذا المنزل غير الصحي لقدمه وضيقه، فالبيت مكون من ثلاث غرف والرابعه غرفتي الخشبية، وحمام ومطبخ صغير، ويوم بعد يوم المأساة تكبر مع تقدم ابنائنا في العمر، خصوصاً انهم يحتاجون الي بيئة صحية تسمح لهم بالنمو بالشكل المناسب .
وبادرتنا بالقول: تعالوا لتروا المكان الذي وقعت منه ابنتي فأخذتنا الي خارج الغرفة وقالت: ارفعوا اعينكم الي السماء لتروا الارتفاع الذي حدثت فيه المعجزه ، نعم معجزه، فمن كان يتوقع ان تعود الحياة لإبنتي ذات العامين بعدما سقطت من هذا العلو لتسلقها الثلاجة التي وضعتها اختي خارج الغرفة ، وتكمل بعدما زفرت تنهدات حزينة: بقت ابنتي ليومين في غيبوبة بعد الحادث، وحدث لها كسر في الجمجمة، والحمد لله رزقت عمراً جديداً ببقائها علي قيد الحياة..
أبناء زيجات فاشلة
تلتقط خيط الحديث الأخت الكبري لتقول: المنزل قديم ويحتاج الي مبالغ طائلة لبنائه او حتي ترميمه، وهو مالا تستطيع ان تتحمله جيوبنا الفاضية، قدمنا بطلب لوزارة الإسكان ورفض، حال منزلنا يسوء يوماً بعد يوم خصوصاً مع قدوم فصل الشتاء وتساقط الامطار علينا، والذي يقضي علي الباقي من حاجياتنا بعدما تتسرب الامطار لغرفنا، البيت غير صحي كما ترون، وابني مصاب بضيق في التنفس، وهذا المكان لا يلائمه البته، ابنائي يذهبون الي المدرسة بمصروف يومياً، وبغيره ايام أخري، ماذا اعمل فالعين بصيرة واليد قصيرة!!
خرجنا بعد ذلك من المنزل بسرعة، فرائحته التي كادت ان تقتلنا، لم تتح لنا الفرصة لنبش مشاكل هذه الاسرة أكثر، والتي تحاصرهم كما لمسنا وتتفاوت ما بين الفقر والاسية والغربة وسط الحياة وبناء مهددين بالضياع هم حصيلة زيجات فاشلة.. تري هل سيكون اولئك الاطفال كأمهاتهن، خصوصاً ان لا احد من هؤلاء الاطفال الستة يعيش في كنف والده او علي الاقل تحت ناظره!!
Catsocaff
2003-10-06
كتبت - ياسمين خلف: من قلب المأساة الانسانية والإجتماعية سنعيش خلال الأسطر القادمة دقائق مع اسرة اضناها الفقر والعوز، ونه...
أحدث التعليقات