أسرة بحرينية يحاصرها الفقر والمرض الغـــريب
كتبت – ياسمين خلف:
كلنا نحلم بلا استثناء ولكن تختلف تلك الأحلام من شخص لشخص آخر، فقد تصل أحلام البعض السحاب والبعض الآخر قد لا تتعدي أحلامهم السنتيمترات!! أيتصور أحدكم ان هناك من يحلم بسرير وعليه دب صغير؟!! ذلك هو حلم (زينب) ابنة السبعة أعوام التي فقدت وستفقد أجمل سنين عمرها في الحرمان!! فما هي أحلام أهلها؟! وكيف لهم أن يواجهوا ضنك الحياة وقسوتها بـ 260 دينارا هو راتب الزوج الذي ينفقه علي 13 شخصا هم من يسكنون في ذلك المنزل الأقرب الي الخربة منه إلي المسكن.
دخلنا ممرا ضيقا أوصلنا الي منزل (عبدالجليل) الكائن في قرية عذاري، نوه علينا أحد الجيران بأن ما سنراه جزءا من التراث كناية علي قدم المنزل.. استقبلنا الأطفال بابتسامة خجولة وبدأنا نتقاسم المعاناة معهم..
(أم محمود) – فوزية عباس زبيل أم لثلاثة أولاد، وأربع بنات وذلك ليس بالأمر الغريب، ولكن الغريب انهم جميعا (مرضي)!! بل والأغرب من ذلك انهم لا يعانون من مرض واحد لنقول عنه بأنه مرض وراثي، بل انهم يعانون من أمراض مختلفة!! حاولنا كتم استغرابنا إلا انه كان أقوي مما كنا نعتقد، فبدي استغرابنا واضحا في عيوننا قبل أحرفنا فماذا قالت (أم محمود)؟!
لولا رحمة الله
أول ما قالته: (كنت قد أملت خيرا بما سيرزقني الله، ولا اعتراض علي حكمته، ولكني ذقت وتجرعت مر الحياة من كأس الأمراض التي يعاني منها أبنائي، فإبني ذو التسعة عشر ربيعا (ابني البكر) أصيب بنزيف داخلي في المخ، مما أثر سلبا علي رجليه، وانتهي به المطاف الي ان يكون في صفوف المعاقين اليوم، وبسبب تلك الاعاقة يرفض الخروج من المنزل ويرفض مقابلة الآخرين خجلا مما آلت اليه رجلاه.
ابني الآخر (جعفر) وهو يصغر محمود بعام واحد يعاني من مرض غريب أعراضه الانتفاخ في أجزاء الجسم وتقيح ونزيف تلك الانتفاخات وتركها علامات علي جسمه وهي باقية حتي اليوم، تقتطع الحديث عمته (فاطمة) لتقول: (عاني ابن أخي كثيرا جراء هذا المرض لدرجة انه يبقي طريح الفراش في المستشفي لثلاثة أشهر متواصلة في بعض الاحيان، حتي ان طبيبه المعالج (جزاه الله خيرا) كان يأخذه معه اذ ما صادف وان مرت أيام العيد وهو في المستشفي خوفا عليه من حدوث اي مضاعفات وهو بعيد عن أعين الاطباء المختصين.
تعود الأم لتقول وبغصة: أما عن ابني الأصغر ذي الاثني عشر عاما فهو يعاني من تخلف عقلي، ولهذا السبب فهو مقيد في ادارة الرعاية والتأهيل الاجتماعي خلافا لاقرانه المقيدين في المدارس الحكومية.
(رحمة الله وسعت كل شيء) تلك الآية القرآنية مرت علي خاطرنا ونحن نسمع ونري تلك الأمراض التي يعاني منها أطفال وشباب تخلفوا عن ركب أقرانهم، تقتطع سرحاننا كلمات الأم التي نمت عن حرقة في قلبها، لم ولن تنطفئ بسهولة، وان كانت ستخفف، ستخففها رحمة الله لتقول مكملة: (انظروا الي هذه الطفلة الصغيرة(رقية) ذات العام الواحد، أيصدق أحدكم انها اقتربت من الموت عندما دخلت لغرفة العمليات لاجراء عملية ازالة غدد وورم في بطنها.. واختها الكبري (خديجة) ذات الاربعة عشر عاما كانت تعاني ولفترة من طفولتها من تقرحات وانتفاخات غزت رأسها وأدت الي تساقط شعرها (تاج المرأة) وتوقفت عندما كبرت أما عن تلك الطفلة الشقية بطبعها (زينب) فهي تعاني من التهابات في العظام وكم من المرات التي تنام فيها في المستشفي لأشهر طويلة وابنتي الاخري (بيان) كذلك لم تسلم من المرض فأبنائي جميعا مرضي ما أن يخرج احدهم من المستشفي الذي أصبح كبيتهم حتي دخل الآخر محله.. فغدي كل من في المستشفي يعرف أبنائي.. فإحساسي هو ان اجنحتي قد تكسرت فأبنائي من كنت أعول عليهم آمالي خذلوني لا بسببهم وانما بأمراضهم!!
ولم يقتصر المرض علي أبنائي، بل تعداه الي (أخو زوجي) الذي عاني لفترة من الفشل الكلوي، وتقدمت له أيدي رجال الخير فساعدته علي السفر والعلاج في الخارج وتمت زراعة الكلي له، إلا انه وبسبب اصابته بداء السكري قطعت علي أثره رجله واحدي أصابع يديه وها هو اليوم يعيش معنا في هذه الخربة التي ترونها!!
ليس المرض وحده!!
كنا نعتقد ان ما تجأر به (أم محمود) من شكوي لطلب العلاج لأبنائها ولكنها قالت: (ليس الهم الوحيد الذي يجثم فوق صدري أمراض أبنائي، بل بقاءنا جميعا في هذا البيت غير الصحي، والذي قد يدركنا البعض بعدما يسقط علينا!!
ما الحكاية
يا (أم محمود)؟!
ذلك ما سألناها، وردت بصوت تخنقه العبرة، أرفعوا بصركم قليلا وانظروا الي المنزل دون أن أنبس ببتة شفة ستدركون بلا شك مدي قسوة الحياة التي نعيشها في كنف هذا المنزل المتهالك.. حكايتنا حكاية، فأنا تزوجت قبل عشرين عاما ودخلت عروسا لهذا المنزل الذي توارثه الأبناء عن الآباء والآباء عن الأجداد، حتي هذه اللحظة التي نعيشها تحت ظله المتهالك قد يعتقد السامع اننا نملكه ولكن ذلك ليس بواقع فالمنزل لورثة قد يصل عددهم الثلاثون أو أكثر، وإن طالبوا في هذه اللحظات بحقهم، سنكون جميعاً متشردين في الشوارع..
نقودنا ذهبت أدراج الرياح
تضحك ضحكة المغلوب علي أمره وتواصل حديثها: (حدث وإن حصلنا علي بيت من وزارة الإسكان في مدينة حمد، دوار 22، ولظروف زوجي وعدم امتلاكه لمواصلات خاصة تقله للعمل لم ننتقل فيه، فظللنا ندفع إيجار المنزل لفترة تقترب من الأربع سنوات، يفسر (الزوج) الأمر بقوله: (لقد دفعت 46 دينارا شهرياً لفترة سنتين متواصلتين، و48 ديناراً شهرياً لسنة و7 أشهر، كنت أدفع الإيجار بانتظام، لعل وعسي تتحسن الظروف وأملك (سيارة) لتسهل علي مشقة الذهاب للعمل، ولأزور أبي وجدي وجدتي المرضي في هذا المنزل إذا ما أنفصلت عنهم في بيت آخر، بل لأقلّ أبنائي المرضي من وإلي المستشفي خصوصاً مع حاجتهم اليومية لمراجعة الأطباء نظرا لسوء حالتهم الصحية.
وحدث ما لم
يكن في الحسبان
بالفعل.. حدث ما لم يكن في الحسبان ولا الخاطر، تفاجئنا بقرار من وزارة الاشغال والاسكان بسحب ذلك المنزل لعدم السكني فيه، حاولنا استعطاف قلوب المسئولين دون جدوي!
ومما زاد حرقة قلوبنا ان أحد المسئولين علق علي الموضوع بقوله: (أعتبر نفسك كنت تدفع إيجار شقة وقد خرجت منها، وإن تلك الدنانير قد ذهبت لصاحب الشقة!).
جده وهبه منزلاً
وبعد تلك الحادثة غير المتوقعة تقدمنا بطلب جديد لوزارة الأشغال والاسكان وكان ذلك قبل 12 سنة من الآن، وحدث وإن صادفت تلك الفترة، إن (جد زوجي) بعدما عاش معنا وألتمس حاجتنا الماسة للسكن لإيواء أبنائي المرضي، وهب زوجي منزله الصغير القديم الآيل للسقوط لعل وعسي يكون عوناً لنا في محنتنا.. وبعدما تم تسجيله باسم زوجي ألغت وزارة الاسكان طلبنا لعدم أحقيتنا في الطلب ما دمنا نملك بيتاً.. وإي بيت هذا؟! خربة تعث فيها الفئران والقطط الضالة، وإن أردنا بناءه أو ترميمة، من إين لنا الميزانية لذلك، فراتب زوجي بالكاد يسد أفواه من يعيلهم.
عين عذاري في بيتنا
وخلال جولتنا في المنزل والتقاط (مجيد) أحد الجيران الصور لنا قالت العمة (فاطمة) المنزل مكون من ست غرف، اثنتين منهن فقط نستخدمهما، لعدم صلاحية الباقي للسكن، خصوصا ان السقف قد يسقط في أي لحظة كانت، ولا نحتمل وقوع فاجعة يكفينا الهم الذي نعيشه.
بل إن أحدي الغرف تنعدم فيها الإنارة، والسبب يرجع الي تلك الأسلاك غير الصالحة للتشغيل، كما ان المراوح ما ان نضع احدها تعطب وتتوقف لتسرب الامطار داخلها، فنضطر أن نغيرها سبع مرات تقريباً كل عام.
تضحك خجلاً تريد الإكمال ولكن حياءها يمنعها، إلا أنها أستجمعت أعصابها وقالت: (عندما تسقط الأمطار نبكي، لا أكذب عليكم ولا أمزح، بالفعل نحسب ألف حساب قبل أن تسقط الأمطار، التي هي خير علي الجميع عدانا، فنحن نبكي علي حالنا إذا تساقطت الأمطار، فالغرفة التي نتجمع فيها وتأوينا تتحول الي (عين عذاري)، فهي كالبركة جراء تلك المياه التي ترتفع حتي أقدامنا، فكثيراً ما نستيقظ من النوم ونحن وسط مياه الامطار المتسربة، حينها يكون دورنا إفراغ الغرفة من تلك المياه، علي الرغم من إننا دفعنا فيها ما استطعنا لترميمها.. أيتصور أحدكم إننا عشنا لسنوات لم نستطع فيها دفع ثمن ستارة لنافذة الغرفة!! بل ان منزلنا هذا بقي دون (باب) يحمينا ويستر علينا فترة طويلة، حتي وضعنا واحداً قديماً استغني عنه أحد الجيران!!
تقتطع (الأم) الحديث لتسترسل وتقول: (الشمس تلهب أجساد أطفالي صيفاً، وتجمدهم الرياح شتاء عندما يخرجون من الغرفة الي الفناء الخارجي داخل المنزل، فالمكان الوحيد الذي يمكنهم البقاء فيه هو تلك الغرفة التي هي لكل شيء للنوم والأكل والدراسة والمعيشة، فهل يعقل أن أحبسهم داخل أربعة طوف؟! وذلك من المستحيل!!
متفرقات
عبدالجليل جعفر علي – 46 عاماً (الأب) والذي بدي منهكاً، يعمل في دائرة الكهرباء (التبردات) راتبه 260 ديناراً فقط، يتمني لو يسمح له وزير الاشغال والإسكان مقابلته ليشرح له ظروفه القاهرة!
فوزية (الأم) تقول بكل ثقة: (أعرف جيداً إن الملك المفدي لو يقرأ ما ستنشرونه حتماً لن يتواني عن مساعدتنا، فهو يرفض المهانة والذل لرعيته، فهل يقبل مثلاً أن ننام جميعاً في غرفتين، وفي زاوية صغيرة من إحداها تنام (جدة زوجي) المسنة! وهل يصدق أحدكم إن ابنتي الصغيرة لا تملك حتي خزانة لملابسها، فأضعهم في كيس أسود (خاص للنفايات)!
فاطمة (العمة) تقول: (حتي علاج محمود ابن أختي توقفنا عن مواصلته لعدم إمكانيتنا دفع إجره التاكسي من وإلي المستشفي يومياً! (زينب) ابنة السبعة أعوام تحلم بالسرير وعليه دب صغير! وأوصتنا قبل مغادرتنا منزلهم توصيل سلامها وشكرها لـ (بابا حمد)..
catfeat
18062003
أسرة بحرينية يحاصرها الفقر والمرض الغـــريب كتبت - ياسمين خلف: كلنا نحلم بلا استثناء ولكن تختلف تلك الأحلام من شخص لشخص...
أحدث التعليقات