أرواح ستة تعيش في خرابة بلا معيل ولا أكل ولا عيش كريم

العدد 164- الخميس 9 رجب 1427 هـ -3 أغسطس 2006  

كارثة إنسانية تتوارى في سلماباد:
أرواح ستة تعيش في خرابة بلا معيل ولا أكل ولا عيش كريم

الوقتياسمين خلف:
لم أكن لأتوقع حجم المشكلة بل الكارثة الإنسانية التي كانت في انتظاري عندما سمعت عن عائلة تعيش تحت خط الفقر أو هو أدنى في قرية سلماباد، حتى صعقت بكل ما لكلمة صعقت من معنى ظاهري وخارجي، من حالة هذه الأسرة التي تتكون من أم لا حول لها ولا قوة وخمسة أبناء يتامى أكبرهم في الثامنة عشرة من عمره، وحمدت ربي في سري بأن لا فتاة بينهم، لأسباب قد تكون أهمها بأن الوضع المعيشي كان ولربما دفعها الى الرذيلة إن كانت ضعيفة الإيمان أو الى الانزواء والابتعاد عن العالم المختلف عنها إن كانت أكثر تمسكا بالدين وبالقدر في أحيان كثيرة ولن تخطئها الأمراض النفسية إن هي غزتها وافترستها …
بحكم طبيعة عملي دخلت بيوت كثيرة لعوائل اعتقدت خطأ بأنها الحال الأسوأ في البحرين، ولكني وبعد السنوات الست التي قضيتها في الصحافة لم أجد أسوأ حالا من هذه الأسرة، اقتربت من الباب استئذانا للدخول، بدأت عيني وعيني عدسة المصور تلتقط لقطات لا أظنها ستمحى من ذاكرتنا، بيتا اشبه بخربة، لا بل خربة أطلق عليها جزافا بيتا.
الجدران المتكسرة والمتهدمة تفوح برائحة الرطوبة، الأرضية عارية حتى من السجاد، البيت خال من الأثاث إلا من خزانة يتيمة ابوابها متكسرة تفضح ما تحويه من ملابس رثة، ومقعد متكسر هو الآخر غطي بقطعة من القماش المتمزقة هي الأخرى، وفي الزاوية منها وقفت الأم متغطية برداء الصلاة، لا تسمع صوتها المتهدج استحياء من وضعها ‘’والله فشيلة ما أدري وين أخليكم’’ أول الكلمات التي نبست بها، فعلا لم نجد حتى مكانا لنجلس فيه فظللنا واقفين طوال مدة اللقاء…
المأساة التي نصفها لا تقف عند حد العوز والحاجة بل تأخذنا في بحر متلاطم من المشكلات الاجتماعية والأخلاقية والتعليمية والبيئة حتى! سنلحظها جميعا خلال السرد…
سحبنا ذيولها تتبعها الدهشة الى المطبخ نعم مطبخ مكون من موقد بدائي (جولة) وجدت من خزانة مكسرة قاعدة لها وأواني مبعثرة هنا وهناك لا تجد لها مستقرا، جدران سوداء من أثر الدخان المتعالي من الموقد، وأرض أسمنتية متكسرة، وغسالة كهربائية لا تعمل، وغرف مظلمة لا تجد حتى مصابيح تنير عتمتها، ولحسن حظهم تبرع قبل أيام أحد المحسنين بثلاجة لم تجد العائلة ما تملؤها به! ولا شيء آخر.
خرجنا الى الغرف التي وجدت نوافذها قطعة من القماش، استخدمت كستائر تثبتها بقايا ألعاب متكسرة منها سيارة أطفال خالية من إطاراتها وحتى ملامحها الأصلية، اقتطع دهشتنا الابن بسعاله وكحته وقال ‘’عندي أخوان اثنين مقبوض عليهم وهم في الأحداث (ألحين)’’ ما قصتهما سؤال بديهي سبق التفكير والحواس، وقال أخي (….) عمره 14 والآخر 16 وجارنا (….) ذو 24 عاما ويعمل حارسا في إحدى وزارات الدولة يستغلهم في التسول (الطراره) وفي آواخر شهر رمضان الماضي تم القبض عليهما من قبل الشرطة وتم إيداعهما في دار الأحداث، وقال لنا المسؤول إذا توظفت أنت أو أخيك تعال وخذ أخوانك ولكن الآن لا يمكننا الإفراج عنهما ‘’كم مرة اشتكينا عليه في الشرطة ولا يجوز يأخذ أخواني في سيارته ويخليهم يطرون وهو يراقبهم ويأخذ اللي يحصلون عليه’’.
كارثة أخرى صعقنا بها فالعائلة المكونة من الأم والأبناء الستة أحدهما متوفى منذ عام 1999 وكان عمره 7 سنوات في حادث سير، واثنين منهما عاطلان عن العمل تركا مقاعد الدراسة وهما في الصفوف الابتدائية والآخران في الأحداث وآخر العنقود طفل لم يتجاوز الثامنة من عمره، لم تجد الطفولة طريقا إليه وهو المحروم من الملبس والمأكل الملائم، حتى أحلامه لم تتجاوز الحصول على دراجة هوائية وكرة وسيارة يتحكم بها بالرموت كنترول و(بته)، تلك كانت أقصى أمنياته وهو يحدثنا ممسكا بكرة بالية وجدها في الشارع وادخرها في منزله…
أين الأب؟ سؤال أجابنا عليه الأبناء وهو مطأطئ الرأس ،’’توفي في حادث حريق في عرض البحر’’، والمفاجأة التي لم يدرك الأبناء حجمها خلال حديثهما، هي أن الحادث الذي راح فيه أبوهم ضحيته قبل سنوات كان معه اثنين من أصدقائه الناجين، احدهم هو ذلك الجشع المستغل لبراءة أخويها في التسول!
تلفتنا نبحث عن الأم التي توارت وراء عباءة الصلاة لتحدثنا، فوجدناها وقد أغرقها الخجل في إحدى زوايا المنزل، باستحياء ثم قالت ‘’كان زواجها أثر خطبة عائلية، وكنت حينها زوجة ثانية، كانت حياتي لا تختلف عن الأخريات والمشكلات التي كنت أوجهها عادية وتحصل في أي منزل، ولكن أول غير والحين غير’’ بتنهيده ونظرات مكسورة أكملت ‘’زوجي المرحوم لم يقصر معنا، وبعد وفاته اسودت الدنيا أمامنا، فلا نجد اليوم حتى ما نسد به جوعنا، والمعاش التقاعدي لزوجي لا يكفي وهو الذي لا يزيد عن 190 ديناراً و30 ديناراً كمكرمة الأرامل’’.
أين الصناديق الخيرية عنكم، يلتقط خيط الحديث ابنها ليستدرك ‘’لا نجدهم إلا في شهر رمضان’’ وكيف تعيشون؟ بقوة إيمان واضحة على ألفاظها قالت ‘’إذا في أكل أكلنا، وننتظر المعاش التقاعدي بعدها، وكم من ليال بتنا فيها ونحن جياع ،لا يعلم بنا غير الذي خلقنا، الحمد لله على كل شيء’’.
وكيف تواجهين طلبات أبنائك؟ وإن استثنينا الأكبر سنا، ماذا عن ابنك ذي الثمان سنوات؟ تنظر إليه وهو جالس على عتبة السلم المتهالك، وكأنما عيناها تقول ‘’ما باليد حيلة يا فلذة كبدي’’ ولسانها يفصح بالقول ‘’لأيام لم يذهب الى المدرسة، والسبب أنه لا يملك الملابس التي تجعله في مصاف أقرانه بالفصل، وكم استلفت من الباعة حتى بت اليوم معروفه عند أغلبهم، البعض يتريث في الطلب والبعض يلاحقني طالبا حقه الذي أعجز حتى عن توفير ربعه.
الابن الأكبر ذو الثامنة عشر ربيعا أشعث الشعر رث الملابس منزويا في غرفته عن أقرانه، بنظرات منكسرة لم يرفع عينيه إلينا، أبدا آسفا على وظيفة بإحدى شركات الألمنيوم براتب 150دينار بحريني فصل منها، يعترف أنه لم يكن واعيا بدرجة كافيه ليعرف قيمة الانضباط في العمل حفاظا على لقمة العيش، ومتعهدا بأنه لن يفرط في أي وظيفة يقتات منها هو وعائلته مهما كان نوعها، يضحك أخوه ليقول يتمنى أن يملك سيارة نيسان في يوم من الأيام …
ليست بعيدة تلك الأمنية أجبناه، سحبنا بعدها ذيولنا حاملين معنا قصة أرواح ستة تعيش أشبه بالأشباح في خربة متهالكة، لا تعلم من الحياة سوى سد الجوع وستر العورة، استدرنا لنداء الأم التي قالت بخجل ‘’لا يوجد شيء في الثلاجة’’ وركض الابن الأصغر من بين أيدينا متحديا الظروف معبرا عن طفولة وكأنما يقول أنا طفل ومن حقي أن أعيش.

العدد 164- الخميس 9 رجب 1427 هـ -3 أغسطس 2006  

كارثة إنسانية تتوارى في سلماباد:
أرواح ستة تعيش في خرابة بلا معيل ولا أكل ولا عيش كريم

الوقتياسمين خلف:
لم أكن لأتوقع حجم المشكلة بل الكارثة الإنسانية التي كانت في انتظاري عندما سمعت عن عائلة تعيش تحت خط الفقر أو هو أدنى في قرية سلماباد، حتى صعقت بكل ما لكلمة صعقت من معنى ظاهري وخارجي، من حالة هذه الأسرة التي تتكون من أم لا حول لها ولا قوة وخمسة أبناء يتامى أكبرهم في الثامنة عشرة من عمره، وحمدت ربي في سري بأن لا فتاة بينهم، لأسباب قد تكون أهمها بأن الوضع المعيشي كان ولربما دفعها الى الرذيلة إن كانت ضعيفة الإيمان أو الى الانزواء والابتعاد عن العالم المختلف عنها إن كانت أكثر تمسكا بالدين وبالقدر في أحيان كثيرة ولن تخطئها الأمراض النفسية إن هي غزتها وافترستها …
بحكم طبيعة عملي دخلت بيوت كثيرة لعوائل اعتقدت خطأ بأنها الحال الأسوأ في البحرين، ولكني وبعد السنوات الست التي قضيتها في الصحافة لم أجد أسوأ حالا من هذه الأسرة، اقتربت من الباب استئذانا للدخول، بدأت عيني وعيني عدسة المصور تلتقط لقطات لا أظنها ستمحى من ذاكرتنا، بيتا اشبه بخربة، لا بل خربة أطلق عليها جزافا بيتا.
الجدران المتكسرة والمتهدمة تفوح برائحة الرطوبة، الأرضية عارية حتى من السجاد، البيت خال من الأثاث إلا من خزانة يتيمة ابوابها متكسرة تفضح ما تحويه من ملابس رثة، ومقعد متكسر هو الآخر غطي بقطعة من القماش المتمزقة هي الأخرى، وفي الزاوية منها وقفت الأم متغطية برداء الصلاة، لا تسمع صوتها المتهدج استحياء من وضعها ‘’والله فشيلة ما أدري وين أخليكم’’ أول الكلمات التي نبست بها، فعلا لم نجد حتى مكانا لنجلس فيه فظللنا واقفين طوال مدة اللقاء…
المأساة التي نصفها لا تقف عند حد العوز والحاجة بل تأخذنا في بحر متلاطم من المشكلات الاجتماعية والأخلاقية والتعليمية والبيئة حتى! سنلحظها جميعا خلال السرد…
سحبنا ذيولها تتبعها الدهشة الى المطبخ نعم مطبخ مكون من موقد بدائي (جولة) وجدت من خزانة مكسرة قاعدة لها وأواني مبعثرة هنا وهناك لا تجد لها مستقرا، جدران سوداء من أثر الدخان المتعالي من الموقد، وأرض أسمنتية متكسرة، وغسالة كهربائية لا تعمل، وغرف مظلمة لا تجد حتى مصابيح تنير عتمتها، ولحسن حظهم تبرع قبل أيام أحد المحسنين بثلاجة لم تجد العائلة ما تملؤها به! ولا شيء آخر.
خرجنا الى الغرف التي وجدت نوافذها قطعة من القماش، استخدمت كستائر تثبتها بقايا ألعاب متكسرة منها سيارة أطفال خالية من إطاراتها وحتى ملامحها الأصلية، اقتطع دهشتنا الابن بسعاله وكحته وقال ‘’عندي أخوان اثنين مقبوض عليهم وهم في الأحداث (ألحين)’’ ما قصتهما سؤال بديهي سبق التفكير والحواس، وقال أخي (….) عمره 14 والآخر 16 وجارنا (….) ذو 24 عاما ويعمل حارسا في إحدى وزارات الدولة يستغلهم في التسول (الطراره) وفي آواخر شهر رمضان الماضي تم القبض عليهما من قبل الشرطة وتم إيداعهما في دار الأحداث، وقال لنا المسؤول إذا توظفت أنت أو أخيك تعال وخذ أخوانك ولكن الآن لا يمكننا الإفراج عنهما ‘’كم مرة اشتكينا عليه في الشرطة ولا يجوز يأخذ أخواني في سيارته ويخليهم يطرون وهو يراقبهم ويأخذ اللي يحصلون عليه’’.
كارثة أخرى صعقنا بها فالعائلة المكونة من الأم والأبناء الستة أحدهما متوفى منذ عام 1999 وكان عمره 7 سنوات في حادث سير، واثنين منهما عاطلان عن العمل تركا مقاعد الدراسة وهما في الصفوف الابتدائية والآخران في الأحداث وآخر العنقود طفل لم يتجاوز الثامنة من عمره، لم تجد الطفولة طريقا إليه وهو المحروم من الملبس والمأكل الملائم، حتى أحلامه لم تتجاوز الحصول على دراجة هوائية وكرة وسيارة يتحكم بها بالرموت كنترول و(بته)، تلك كانت أقصى أمنياته وهو يحدثنا ممسكا بكرة بالية وجدها في الشارع وادخرها في منزله…
أين الأب؟ سؤال أجابنا عليه الأبناء وهو مطأطئ الرأس ،’’توفي في حادث حريق في عرض البحر’’، والمفاجأة التي لم يدرك الأبناء حجمها خلال حديثهما، هي أن الحادث الذي راح فيه أبوهم ضحيته قبل سنوات كان معه اثنين من أصدقائه الناجين، احدهم هو ذلك الجشع المستغل لبراءة أخويها في التسول!
تلفتنا نبحث عن الأم التي توارت وراء عباءة الصلاة لتحدثنا، فوجدناها وقد أغرقها الخجل في إحدى زوايا المنزل، باستحياء ثم قالت ‘’كان زواجها أثر خطبة عائلية، وكنت حينها زوجة ثانية، كانت حياتي لا تختلف عن الأخريات والمشكلات التي كنت أوجهها عادية وتحصل في أي منزل، ولكن أول غير والحين غير’’ بتنهيده ونظرات مكسورة أكملت ‘’زوجي المرحوم لم يقصر معنا، وبعد وفاته اسودت الدنيا أمامنا، فلا نجد اليوم حتى ما نسد به جوعنا، والمعاش التقاعدي لزوجي لا يكفي وهو الذي لا يزيد عن 190 ديناراً و30 ديناراً كمكرمة الأرامل’’.
أين الصناديق الخيرية عنكم، يلتقط خيط الحديث ابنها ليستدرك ‘’لا نجدهم إلا في شهر رمضان’’ وكيف تعيشون؟ بقوة إيمان واضحة على ألفاظها قالت ‘’إذا في أكل أكلنا، وننتظر المعاش التقاعدي بعدها، وكم من ليال بتنا فيها ونحن جياع ،لا يعلم بنا غير الذي خلقنا، الحمد لله على كل شيء’’.
وكيف تواجهين طلبات أبنائك؟ وإن استثنينا الأكبر سنا، ماذا عن ابنك ذي الثمان سنوات؟ تنظر إليه وهو جالس على عتبة السلم المتهالك، وكأنما عيناها تقول ‘’ما باليد حيلة يا فلذة كبدي’’ ولسانها يفصح بالقول ‘’لأيام لم يذهب الى المدرسة، والسبب أنه لا يملك الملابس التي تجعله في مصاف أقرانه بالفصل، وكم استلفت من الباعة حتى بت اليوم معروفه عند أغلبهم، البعض يتريث في الطلب والبعض يلاحقني طالبا حقه الذي أعجز حتى عن توفير ربعه.
الابن الأكبر ذو الثامنة عشر ربيعا أشعث الشعر رث الملابس منزويا في غرفته عن أقرانه، بنظرات منكسرة لم يرفع عينيه إلينا، أبدا آسفا على وظيفة بإحدى شركات الألمنيوم براتب 150دينار بحريني فصل منها، يعترف أنه لم يكن واعيا بدرجة كافيه ليعرف قيمة الانضباط في العمل حفاظا على لقمة العيش، ومتعهدا بأنه لن يفرط في أي وظيفة يقتات منها هو وعائلته مهما كان نوعها، يضحك أخوه ليقول يتمنى أن يملك سيارة نيسان في يوم من الأيام …
ليست بعيدة تلك الأمنية أجبناه، سحبنا بعدها ذيولنا حاملين معنا قصة أرواح ستة تعيش أشبه بالأشباح في خربة متهالكة، لا تعلم من الحياة سوى سد الجوع وستر العورة، استدرنا لنداء الأم التي قالت بخجل ‘’لا يوجد شيء في الثلاجة’’ وركض الابن الأصغر من بين أيدينا متحديا الظروف معبرا عن طفولة وكأنما يقول أنا طفل ومن حقي أن أعيش.

عن الكاتب

تدوينات متعلقة

اكتب تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.